حين يقفل الزمن بابه 4/ - هذيان صديقي العزيز: كان يوم النطق بالحكم عصيبا؛ اختلطت فيه كل الصور والذكريات، فقدت الإحساس بكل شيء لم أستطع تمييز صور الأشخاص والأماكن، كل شيء يبدو كوهم شامخ انهار بنيانه في لمح البصر ..سراب يغشى العيون عم الكون لمعانه ؛ هذيان الأفواه هذيان الصدى.. هذيان الطرق بقوة على سندان الذاكرة.. - شو انحكمت؟ - مالك خص فالريال - في حد سألك أنت؟ - ذكروا الله يا جماعة.. - توك دريت أن الله حق وين كنت قبل!؟ جدال لا معنى له ...! أنين يصدح في كل الأماكن والأركان، لغو الكلام يخنقه هدير محرك الحافلة اللعين، وميض الحروف برق خاطف يخترق الجسد، لهيب الحكم قضاء يحرق غشاء العقل من الأسى والكمد،مسالخ الأرواح نشرت في العراء، وآلاف الرؤوس بعثرت بين الركام، هياكل المشانق تدلت حبالها في ساحات حبا لها الموت القتل والإعدام، على أرض البور القاحلة بين بقايا الدمار مجانيق الخراب وسياط العذاب، ملايين البشر المتعطش للحياة، يمشي مكبا على وجهه جماعات ثم فرادى على قارعة الصراط المفقود.. اقتيد الجميع كقطيع من الدواب أصابها جنون البقر ورشح الدجاج وحمى الخنازير؛ حشرت دكا في إحدى الآلات العسكرية المطوقة بقطع مسلحة، تزحف ببطء إلى مكان الإقامة الأخير، فكانت مراسيم الضيافة لها شأن آخر في مقر أحوال المنشأة، احتفالا صاخبا واستقبالا حارا بالزوار الجدد؛ مكان لا حياء فيه يجرد المرء من ملابسه ليخضع لإجراءات الإدخال اللازمة، يجلس الجميع القرفصاء صفا واحدا في الميدان؛ حينها تطلق الوحوش المستعرة كلاب مدربة على كشف الظاهر والباطن والمستور، تدس أنفها في جسد الواحد تلو الآخر مستغرقة في شم عميق يصحبه لهاث و عواء متقطع حين يلتبس في أنفها عطر الرحيق ... ثم تعيد الكرة مرة أخرى في أماكن حساسة من الجسد، بعدها يتم التصنيف والتوزيع إلى مجموعات حلقت رؤوسها حفت شواربها وارتدت رداء التطهير.. استعدادا لإجراء أخير؛ تلتقط فيه بعض الصور التذكارية المرصعة برقم القضية، وتأخذ بصمات الأكف والأصابع لتدرج البيانات في خانات القوائم السوداء في جهاز الأدلة الجنائية، مرجعا صحيحا غير مرسل لأصحاب السوابق من يشكلون خطرا على المجتمع برمته، وأخيرا يستلم النزيل بطاقة هويته الجديدة، ويزج في إحدى الزنازين الانفرادية لغاية دمجه مع باقي السجناء الذين لهم نفس المصير ... ففي هذه الأمكنة الضيقة الباردة، يجثم الرعب على القلوب والخواطر، حين يجن الليل يختلط السكون بضوضاء الذاكرة؛ كهمس خافت تدفق العمر فيه عبر خلجات القضبان القذرة، في براثين الحزن والأسى والندم؛ تتلاشى الأحلام كزرقة المدى، وتحتضر الحياة في أحضان الصمت الرهيب، يتداعى العشق كجبل الجليد؛ ويرتمي الحب جنينا في دفئ أحضان الماضي البعيد كجسد صغير صغير لا تدرك الروح منه معنى الحوار، ينبض في قلبه الهوى دقات بريئة لا يعي لغة الكبار.. فلا المعاجم القديمة يا صاح ضمت في طياتها سؤالا عقيما إلى متى نظل نسبح في أوحال التكرار؟ فكيف تريد من لهجتي الخجولة تحرير مفهوم رسالة؟ تذكرت كل لحظة حزن و ساعة فرح؛ ثم عادني اليوم ألم الوداع... تذكرت رحلتنا هناك.. على صخور مرتفعات تفجرت العيون منها أنهارا؛ تجري على خدود بين سفوح الجبال، فأنا لمآقي العيون منا أن تدمع على الخدود المتحجرة ؟ فقلوب الناس هنا قست كصفا؛ مذ بان عنها الصفاء .. تذكرت الصبا عشقت فيه المرح؛ أحيت شجوني تلك الملح.. تجلت في خضم الأسر هالة نور بعيدة، كمشاعل أوقدت من فوهة بركان صامت، ينعكس الخيال فيها ظلالا على الجدار كمسرح للعرائس..يحكي قصص الصغار: - أنت من..؟ - أنا أوديب - ليش حزين ؟ - فقدت البصر. - خلي قلبك يشوف.. - هو كان السبب. - علمني كيف؟ - سبب الخطيئة؟ - عمر الحب ما كان خطيئة.. - عمر الخطيئة ما كانت حب.. - أنت غلطان. - الحب مجرد غريزة.. - اختيارك خطأ! - هو من يختار.. - وين الإرادة..؟ - شعار مزيف... - وين الحقيقة..؟ - على بعد خطوات منك!! انسدل الستار فتوارى رجال الظلال خلف بساط الحائط...ومازال صدى (الشلات) القديمة( ونات) رسمت تقاسيم نبراتها آثارا بين كثبان الرمال ..لأجلها سحت دموع الربابة نحيبا؛ أذكت في الفؤاد رغبة الحياة وحب الأوطان،لغة الأوتار نشيد للخلود يرثي الاحتضار، ينعى أجنحة المنايا المتكسرة.. فمن أجل تلك الذكريات والآمال القريبة، لا تنسى أن تقرأ الرسالة وإن كانت تعابير الألوان فيها قاتمة؛ كشيزوفرانيا الموت والحياة تأرجحت بين الوهم والحقيقة..الليل طويل لم يعانقه الصباح... صباح جديد تنتزع فيه الروح قهرا من الجسد ويسلخ الفكر عنوة من الذاكرة، حينها تخبو الأحلام ببطء لتسمو في غياهب العدم … - الغرفة مسكرة والباب مفتوح ....أنا سعيد أنا سعيد أنا سعيد.. أنا حزين حزين حزين يا صاحبي....خيبة!!! نور الظلام بعده مولع.. طفي الظلام ..كم مرة أقول لك لا تطل علي من خلف اليدار .... يا ولدي غربت الشمس ما هل الليل ...يا صاحبي الحياة هني والكرفاية ضيقة!! والمكان وسيع فالزاوية.. أسمع كلام مو بصحيح ... دخيلكم خلوني بروحي كان الموت ينفع معاه الصوت . . الفجر بعده بعيد والليل سقفه حديد.. أحرك شفايفي من صرخة فؤادي وصيح وغني وأقول: :.......... شوف دمعي من على خدي يسيل بالصدق ما هو بشروا دمعتك عشت في حبك متيم بك بخيل يا خسارة شوف نفسك غرتك أتحرىا أن الذهب يبقىآ أصيل ما يغيره الزمان وخطوتك لا تلوميني ترى حان الرحيل وش تفيد جروح قلبي رقتك العزى ما يفيد في قلب (ن) قتيل والتسامح ما يغطي غلطتك ما با حد يشوف دمعتي...لا يا صاحبي ورفقة يا خو شمة لاتنسى الوصية... مو كان قصدي صدقوني يا جماعة الخير صدقوني ما دريت وش اللي صار وانت الوحيد تعرف الحقيقة... لا تنسى الذكريات القديمة... لا تنسى الآمال، لا تنسى الماضي الجميل؛منه تعلمنا معاني الحياة والكرامة، كانت أحلامنا آنذاك حاضرة، لم يذكيها ألم في الفؤاد من وقع الجراح؛ ولا ارتجاج في مرآة الذاكرة.. هذا المساء فتحت الزنازين وجلس الجميع في باحة السرداب الضيق، أحمد وعبدالله وخالد وميرزا وسيف.. كل شخص قابع هنا يترقب شوقا ساعة العبور، يحفظ في خاطره مجموعة من الأسرار، تعكس صورة حقيقية عن نزعات إنسانية في العقل المعذب السجين، فهذا أحمد يحكي لنا قصته المروعة التي أودت به إلى هذا المكان قائ - قبل ما أحكي لكم الموضوع اللي صار معي انا هو اللي الديرة كلها تعرفني باسم....