أسباب الانتكاس أو لماذا ينتكس الإنسان؟
1- الغلو والتشدد في دين الله السبب الأول: الغلو والتشدد في دين الله عز وجل؛ لأن الغلو يؤدي إلى تجاوز الحد وكل ما تجاوز حده انقلب إلى ضده، وتصبح ردود فعل، مثل البندول: البندول يتحرك حركة معقولة لكنه عندما ترفع إلى الأعلى ويشد ثم يترك ثم تضطرب حركته،
وكذلك من يغلو في دين الله عز وجل ويتشدد ويتنطع ويحدث في دين الله ما ليس فيه، حتى ولو كان بنية صالحة، فالنبي صلى الله عليه وسلم حذر من الخوارج ، وقال في الصحيحين لرجل اسمه حرقوص دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله ثم ولى، فقال صلى الله عليه وسلم:
(يخرج من ضئضئ هذا أقوام تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وعبادتكم إلى عبادتهم، وأخبر أنهم يخرجون من الدين -ينسلخون من الإسلام- كما يخرج السهم من الرمية) .
فالعبرة ليست بكثرة العمل، وإنما العبرة بكيفية العمل، فكم من عامل يعمل عملاً ليس فيه أمر الله ولا أمر رسول الله ولا ينال عليه أجراً، فلابد من التوسط والاعتدال وهذا مؤشر دقيق؛ لأنه قد يساء فهمه؛ نظراً لبعد الأمة عن تعاليم دينها، وللفارق الزمني البعيد بينها وبين الكتاب والسنة حصلت عندها نظرة عكسية، بحيث نظرت إلى التمسك بالدين أنه من الغلو. يعني: بعض الناس الآن يطلقون التطرف والغلو على من يطبق الشرع الصحيح، إذا رفع ثوبه عن الأرض بحيث طبق السنة، قالوا: فلان متشدد لماذا؟ قالوا: ثوبه إلى نصف ساقه لكن لو سحب ثوبه كما تسحب المرأة عباءتها لقالوا: فلان ما شاء الله معتدل، وهذا عين خطأ. فالاعتدال: هو أن تأتي بالدين كما شرع الله وشرع رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا رأينا شاباً يرفع ثوبه إلى نصف ساقه عملاً بالسنة قلنا هذا شاب معتدل، لكن إذا رأيناه يرفع إلى ركبته ماذا نسمي هذا؟ غلو، أليس كذلك؟
هذا هو منطق الشرع. رأينا إنساناً يكبر ويضع يده اليمنى على اليسرى على صدره في الصلاة، نقول هذا شاب معتدل، لكن إذا رأيناه يكبر ويضع يده اليمنى على اليسرى على رقبته، نقول: هذا غلو؛ لأن رواية وائل بن حجر في زيادة ابن خزيمة على صدره، كان يضع يده اليمنى على اليسرى على صدره، لكن بعض الناس قد يغالي ويضعها على رقبته ويخنق نفسه وهذا من الغلو. وإذا سمعنا إنساناً يقال له: أوصل الكهرباء إلى بيتك فيقول: لا. الكهرباء هذه تشغل الأغاني عند الناس فأنا أقاطع الكهرباء، وهذا غلو، أي نعم. وآخر عنده كهرباء لكنه لم يشتر مكيفاً لأولاده ولا مروحة لماذا؟ يقول: أريد أن أشعر بالتعب في سبيل الله، نقول: هذا غلو وليس من دين الله تبارك وتعالى. آخر معه إمكانية أن يشتري سيارة ولكنه لم يشتر، نقول له لماذا؟ يقول: أريد أن أتعب. لا. ليس هذا من دين الله فهذا هو الغلو، أما الاعتدال والوسطية، فهي الدين؛ لأن الله تعالى
يقول: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة:143]
أمة محمد هي أمة الوسطية والاعتدال، وعدم الغلو وعدم المجافاة وعدم التراخي والضعف وإنما على الكتاب والسنة، تؤدي صلاتك كما أداها النبي صلى الله عليه وسلم، تصوم كما صام النبي صلى الله عليه وسلم، تؤدي زكاتك كما أداها النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا تزيد عما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين :
(أن ثلاثة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا إلى أزواج رسول الله، وسألوا عن عبادته فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقام أحدهم وقال: أما أنا فلا أنام الليل، وقال الثاني: وأنا لا أفطر الدهر، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء -أتبتل- فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بخبرهم نادى بالصلاة جامعة وقال: ما بال أقوام يقولون ويقولون ويقولون، أما والله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، يرسم لأمته المنهج الوسطي، هذا غلا وقال: ما أفطر. لماذا؟ لأن صيام الدهر منهي عنه، وذاك قال: أقوم الليل، فلا ينبغي لك أن تقوم الليل كله، قم ثلثاً ونم ثلثين من الليل، لكن أن تقوم الليل كله دائماً فهذا لا تطيقه أنت ولا يطيقه غيرك، وهذا غلو في دين الله عز وجل، وقد جاءت الأدلة بالنهي عنه، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند :
(إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين)
وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام: (هلك المتنطعون) يعني: المتشددون على أنفسهم بغير دليل شرعي، تقول له: أأكل؟ قال: لا. لماذا؟ قال: هذا فيه ترفه وفيه تنعم. هذا تنطع، كُل مما حل الله لك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة:172].. يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً [المؤمنون:51]. إن الطيبات هذه أحلها الله تبارك وتعالى فكل منها واستعن بها على طاعة الله واعمر بيتك بطاعة الله، اركب جديداًَ والبس نظيفاً، وتزوج جميلاً، وابن جميلاً، لكن: اركب سيارة جديدة واستخدمها في طاعة الله، تزوج زوجة جميلة وربها على دين الله، ابن عمارة طويلة عريضة واستخدمها في طاعة الله، واعمرها بذكر الله، من قال لك أن هذا حرام، إن هذا هو النظر الذي يؤدي بك في النهاية إلى الانتكاس والعياذ بالله. أيضاً يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في سنن أبي داود (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، وإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع) هؤلاء الرهبان شددوا وابتدعوا، قال تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَاكَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ [الحديد:27] ما كتبها الله عليهم ولكنهم هم الذين ابتدعوها وترهبوا، ويظنون أنها دين وليست بدين، وفي صحيح البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: (إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا) (وما خيِّر صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً)، بعض الشباب الآن يختار الأعسر يقول: من باب الحيطة، وهذا لا ينبغي، إذا خيرت بين أمرين فخذ الأيسر، لماذا؟ لأن هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضاً في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (اكتفوا من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وإن أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل) يعني: ركعتين في جوف الليل تصليهما أفضل من أن تصلي في الليلة عشر ركعات ثم تنام شهراً لا تصلي، صل ركعتين فقط ولكنهما تؤثران في قلبك أعظم من أثر مائة ركعة في ليلة. الآن انظر إلى الماء: إذا صببت الماء قطرة قطرة على الصخرة بعد سنة تجد أن هذه القطرة التي نزلت على الصخرة قد حفرت في الصخرة أليس كذلك؟ لكن لو أخذت الماء الذي نزل ودفعته دفعة واحدة على صخر هل يتأثر؟ لا يتأثر، لكن الاستمرارية تتأثر فكونك تستمر في عمل صالح تنفق في اليوم ريالاً أفضل من أن تنفق في اليوم مائة ثم تقعد سنة لا تنفق ولا ريالاً، كلما رأيت فقيراً وقف عند سيارتك أعطه ريالاً، اجعل في شنطتك بعض الريالات، أفضل من أن تفتح الشنطة وتجد فقيراً واحداً فتعطيه عشرة ثم يلقاك عشرة فقراء فلا تعطهم شيئاً، فأيهما أفضل أن تنال دعوة من فقير واحد أو من عشرة فقراء؟ فأنت عندما تعطي عشرة فقراء تنال من كل فقير دعوة حتى يخلف الله عليك، قال تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سبأ:39] فهذا أول سبب من أسباب الانتكاس وهو: الغلو والتشدد أكثر مما شرع الله، وهذا القيد من عندي؛ لأن التمسك بما شرع الله لا يسمى غلواً ولا تشدداً، التمسك به هو الاعتدال وهو الوسطية وهو الحق، لكن الذي نخدر منه هو الزيادة على دين الله، حتى لا يجد المتفلتون طريقاً من هذا الكلام إذا رأوا شاباً متمسكاً قالوا: هذا متشدد لا. ليس متشدداً، الشاب المتمسك بالسنة ليس متشدداً بل هو معتدل؛ لأنه على الوسطية التي شرعها الله في كتابه، وسنها رسوله صلى الله عليه وسلم في هديه وسنته.
2- مفارقة الجماعة وإيثار العزلة ثانياً: من أسباب الانتكاسة: مفارقة الجماعة، وعدم الاختلاط بالصالحين، وإيثار العزلة، بعض الناس يكره الشباب الطيب، ويكره الجماعة، ويقول: لوحدي، ووحدك هذه فيها خطورة عليك؛ لأنه إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة) والله يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103 ] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول والحديث في سنن الترمذي : (عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد) الشيطان مع واحد لكن مع الاثنين لا يستطيع عليهم، مع ثلاثة لا يستطيع أن يمشي معهم، لكن مع واحد يدخل عليه ويوسوس له حتى يضله، فعليك أن تتقي الله وتلزم الجماعة. سؤال: من هم الجماعة؟ الجواب: هم الذين على الحق ولو كان واحداً، ليست الجماعة بالكثرة، ولا بالحزب، ولا بالدعوة الفلانية، الجماعة: من كان على ما كان عليه رسول الله وأصحابه، ولو ما في الأرض إلا شخص فهو الجماعة، والبقية صفر على الشمال، يقول الله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120 ] إبراهيم فرد في الأمة لكن هو الأمة، والبقية لا شيء؛ لأن الميزان عند الله هو الدين، والله يزن الناس على ضوء تمسكهم بكتابه وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فعليكم بالجماعة والجماعة هم أهل الحق ولو لم يكن إلا واحداً.
3- الغفلة عن الموت والدار الآخرة ثالثاً: من أسباب الانتكاسة: الغفلة عن الموت والدار الآخرة: يغفل الإنسان عن المصير وينسى الآخرة فيقسو قلبه، وينتج عن هذه القسوة أثر في القلب فيرجع، فيجب عليك أن تتذكر الموت باستمرار، وأن يكون جسدك هنا وقلبك في الآخرة تنام في القصر، وقلبك في القبر، تنام على الفراش الوفير وقلبك في القبر الضيق، تنام على النور وعينك على الظلمة في القبور، يعني: مفاهيمك وأحاسيسك ومشاعرك كلها في الآخرة، وأنت جالس هنا، تعيش بقلبك أحوال الآخرة، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم شرع للأمة زيارة القبور، وقال: (إني كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة). والزيارة الشرعية أن تزور القبر لتدعو لصاحبه، لا أن تدعوه وتستغيث به، والزيارة الشركية أن تذهب إلى لمقابر، كما هو موجود في بعض البلدان يذهبون إلى القبور ليطوفون بها ويدعونها من دون الله وهذا شرك؛ لأن هذا الذي تدعوه يقول الله عنه: (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر:14] فتدعو للقبر تقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، أنتم السابقون ونحن اللاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، ثم تدعو لهم: اللهم اغفر لنا ولهم ولا تفتنا بعدهم.. إلى آخر الدعاء المأثور. ثانياً: لا تشد الرحال إليهم، أن تشد رحلك وتسافر إلى أي قبر ولو إلى قبر المصطفى الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ لحديث صحيح: (لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا) يعني: المدينة، فإذا أردت المدينة يجب أن تكون نيتك زيارة المسجد النبوي، ومن المعلوم أنك إذا أصبحت في المدينة فإن من السنة أن تسلِّم على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن لا يكون هدفك أن تشد الرحال لزيارة القبر ابتداءً؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك، أما إذا كنت في البلد في مكة ، تسلم على المقابر تمر من عندها وتدعو لهم؛ لأن هذا حق لهم عليك.
4- التهاون بالعمل اليومي للمسلم رابعاً: من أسباب الانتكاس: التهاون في العمل اليومي للمسلم: مثل النوم عن الصلوات المكتوبة، وتفويت تكبيرة الإحرام، أو تفويت ركعة أو ركعتين من الصلاة، لأن بعض الناس لا يأتي إلا بعد الأذان، ثم يتأخر حتى تقام الصلاة وهو غير متوضئ فيقوم لكي يتوضأ، ثم يأتي مسرعاً فيدرك ركعة أو نصف ركعة ويقوم ليقضي ما فاته، هذه بداية الانتكاس، فإذا رأيت شاباً يفعل هذا فاعلم أنه سينتكس، لأنه تهاون في عمل اليوم والليلة. وعمل اليوم والليلة لا بد منه، مثل: قراءة القرآن الكريم: فلابد أن يكون لك ورد يومي من القرآن لا يقل عن جزء، أيضاً إهمال النوافل والرواتب، بعض الشباب لا يصلي الرواتب سبحان الله! كيف تهون عليك راتبة رتبها لك النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً ترك قيام الليل، وصلاة الضحى، وأذكار الصباح والمساء، كل هذه اسمها عمل اليوم والليلة للمسلم، عملك ووظيفتك، فعمل الموظف الكتابة، وعمل العسكري الحراسة وعمل العامل البناء، وعملك كمسلم هذه وظيفتك -وظائف اليوم والليلة- لابد أن تقوم بها ولا تقصر فيها، وإذا قصرت فيها كان تقصيرك فيها وعدم اهتمامك بها سبيلاً مؤدياً إلى الانتكاس والعياذ بالله.
5- أكل الحرام خامساً: من أسباب الانتكاس: أكل الحرام: لأنك إذا أكلت الحرام غذيت جسدك بالحرام، ونبت لحمك من حرام، فالنار أولى بالحرام، وكل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، لا ينفع عمل ولا ينفع دعاء؛ فالذي مطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، أنى يستجاب له؟ وهذا معنى الحديث في صحيح مسلم ، والدليل على أن العمل لا ينفع قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليأكل اللقمة من الحرام لا تقبل له صلاة أربعين نهاراً، ومن اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفي ثمنه درهم من حرام لن يقبل الله له صلاة ما دام عليه هذا الثوب) فلابد أن يكون كسبك حلالاً (100% )، احذر من الحرام، جاء في الصحيحين قول الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد ا ستبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه) حمى الله: محارمه لا تقترب منها، الراعي إذا قرب من المكان المحمي أفسدت بعض الغنم ذلك المكان، لكن إذا كان بعيداً فلا يحصل شيئاً، وكذلك أنت لا ترع دينك عند محارم الله، فتقع وأنت لا تدري. فعليك -يا أخي في الله! يا من تريد أن تستقيم وتلتزم وتستمر وتثبت- أن يكون كسبك حلالاً، وأن تراجع نفسك باستمرار في قضية تصفية الكسب، أي شيء يأتيك فيه حرام أوقفه، ولا يقول لك الشيطان: إن هذا يقلل من دخلك ويهز ميزانيتك لا وألف لا، من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، أعرف أحد الإخوة كان يعمل في بنك ربوي وكان راتبه ضخم جداً، وكلما أراد أن يقدم تذكر الشيك الذي في آخر الشهر وخدره الشيطان بالشيك، قال له: اقعد اقعد إلى أن جاءت لحظة من لحظات القوة الإيمانية، قرر وتقدم باستقالته وترك العمل، واختبره الله فترة بسيطة ثم عوضه الله برزق هو فيه أعظم من كل ما قد رزق من الحرام، ويقول لي بعد ذلك: والله إنني في راحة نفسية لو كنت آكل الطين لكان أعظم لي مما كنت أعيشه من عذاب داخلي يوم كنت آكل الحرام، فهذا أهم شيء، فلا تقل: إني إذا تركت الحرام يضيق عليَّ رزقي، قد يختبرك الله ويبتليك لكن اصبر، فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.
6- التقصير في حق البدن وحق النفس والأهل سادساً: من أسباب الانتكاس: التقصير في حق البدن، وفي حق النفس، وفي حق الأهل، وفي حق الأولاد، بسبب اشتغال الإنسان العامل للإسلام بضخامة الأعباء من ندوات ومحاضرات، وقراءة وزوار وزملاء يذهبون ويرجعون، بعد ذلك لا ينام ولا يأكل، ولا يغسل ثيابه، ولا يجلس مع زوجته، يستمر مثل المنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، ما أخذ محطة راحة، الآن عندما تأخذ مكينة وتشغلها أربعة وعشرين ساعة ماذا يصير؟ سوف يحصل لها خلل، لكن عندما توقفها عن العمل وتجعلها ترتاح لا يحصل لها شيء، فمكائن الكهرباء تعمل ثمان ساعات ثم يطفئونها ويشغلون مكينة أخرى حتى تبرد الأولى وهكذا، وكذلك نفسك تحتاج إلى محطات راحة، فعدم إعطاء النفس حقها يسبب لها الخلل والتوقف، وترى بعد ذلك الشخص الذي كان يعمل بجهد قد انتكس -والعياذ بالله- ولو أنه مشى على مهله وأعطى حقه وحق نفسه وحق أهله، لكان معتدلاً. وحق النفس مثل الخروج بالأهل في نزهة إلى الصحراء أو إلى البحر، بشرط ألا يختلط مع أناس، ولا يحدث منكراً، ولا تبرجاً، ولا تصويراً، ولا تضييع للفرائض، ولا يقع في معصية، فهذا حسن فالأنس بالأهل والسمر والجلوس معهم، شيء حث عليه الإسلام. يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لربك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً فآتي كل ذي حق حقه) رواه البخاري في صحيحه، كن معتدلاً، لكن أن تعطي الحقوق كلها لله وتترك أهلك ونفسك فالله لا يريد منك هذا؛ لأنه غني عنك، فلا بد أن تعدل بالقسمة، حق الله لا تقدم عليه أي حق، وحق نفسك لا تضيعه من الراحة والاستجمام والهدوء والانبساط والأكل الطيب، والدابة الطيبة، والمركوب الطيب، والثوب الطيب، والفراش الطيب، هذا كله طيب يبعث فيك قوة ونشاطاً وتجديداً لحياتك، ومن حق زوجتك وأهلك أن يفرحون بك، فبعض الإخوان أهله لا يرون منه شيئاً، كلما دخل المنزل دخل ومعه زميل، ليس منظماً لوقته ولا منسقاً في وضعه، لا يستقبل المكالمات في وقت معين، ولا يستقبل الزوار في وقت معين، ولا يخرج مع الإخوان في وقت معين، بل يخرج كل وقت، ويستقبل كل وقت، وينام كل وقت، وبعد ذلك أهله يريدون بعضاً من وقته فلا يجدون، وكلما طلبوا منه شيئاً قال: لا أستطيع أنا مشغول، زوجته معه في عذاب، تتمنى زوجته أن ينتكس من أجل أن يعود ليجلس معها بل تدعو عليه -والعياذ بالله- فلابد من إعطاء النفس حقها؛ لأن هذا سبب من أسباب التثبيت إن شاء الله.
7- عدم تهيئة النفس لمواجهة معوقات وصعوبات العمل في طريق الله السابع: من أسباب الانتكاس: عدم تهيئة النفس لمواجهة معوقات وصعوبات العمل في طريق الله، يتصور بعض الناس أن الالتزام وأن الدين طريق مفروش بالزهور، وهذا مخالف لسنة الله، والله قد قال في سورة العنكبوت: ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ . [العنكبوت:1-3] أي: أيظن الناس أنهم سيتركون بسبب قولهم هذه الكلمة ولا يقدم لهم ابتلاءات وامتحانات، إذا ظن هذا الظن سيسقط، لكن إذا هيأ نفسه، وأعدها لمواجهة أي صعوبة، يتوقع أنه يسجن، يتوقع أنه يمرض، يتوقع أنه يفقر، يتوقع أن امرأته تخرج من بيته، يتوقع أنه يقتل، يتوقع كل شيء في سبيل الوصول إلى مرضاة الله تبارك وتعالى، فإذا ما جاء هذا الأمر المتوقع، يجد النفس مهيأة لاستقباله فيكون الوقع هين، والأثر بسيط، لكن حينما لا تكون النفس متهيئة له، كيف يكون الأثر؟! النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره ورقة بن نوفل وقال له: (ليتني معك إذ يخرجك قومك، قال صلى الله عليه وسلم: أومخرجي هم؟ قال: نعم. ما جاء أحد قومه بمثل ما تأتي به إلا أخرجه قومه وآذوه، فقال: الله المستعان) استعان بالله عز وجل. أيضاً عثمان بن عفان لما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين يقول أبو موسى الأشعري : (تبعت رسول الله بعد أن خرج من المسجد ودخل بئر أريس -يعني: بستان أريس في المدينة - يقول: فجلس على شفير البئر ودلى رجليه ثم قال: يا أبا موسى! لا تأذن لأحد إلا بعد أن تخبرني، يقول، فقلت: الحمد لله أنا اليوم بواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: فجاء أبو بكر فقلت: يا رسول الله! أبا بكر، قال: ائذن له وبشره بالجنة، يقول: وبعد قليل طرق الباب طارق، قلت: من؟ قال: عمر، قلت: عمر يا رسول الله! قال: ائذن له وبشره بالجنة، يقول أبو موسى فقلت: ليت أبا عامر يأتي) يقول: يا ليت أخي يأتي، يظن أن كل من جاء دخل، وهي ليست هكذا إنما هي لأناس معينين، يقول: (فليت أبا عامر يأتي، يقول: فجاء ثالث وطرق الباب، قلت: من؟ قال: عثمان ، قلت: يا رسول الله! عثمان، قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فقال عندما بشره: أبشر بالجنة على بلوى تصيبك، فقال: الله المستعان). هذه تهيئة الرسول صلى الله عليه وسلم هيأ نفسية عثمان لقبول البلاء، ولذا كان عنده يوم أن قتل أربعمائة عبد في حراسته وهم مملوكون وقد كان تاجراً، فقالوا: ندافع، قال: من ألقى سلاحه فهو حر، فوضعوا السلاح كلهم يريدون الحرية، وأعتقهم لوجه الله، وجلس على مصحفه لا يدفع عن نفسه حتى دخلوا إليه وذبحوه وسال دمه الشريف على المصحف، رضي الله عنه وأرضاه. فلا بد أن تتوقع وأن تهيء نفسك، للابتلاء، ولا تسأل الله البلاء وسل الله العافية، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تتمنوا لقاء العدو ولكن إذا لقيتموه فاثبتوا) نسأل الله العافية، ولكن نسأل الله أن يثبتنا إذا لقينا ذلك.
8- صحبة الأشرار والعصاة الثامن: من أسباب الانتكاس: صحبة الأشرار والعصاة، مثل صحبة ذلك الرجل الذي أضل نفسه وأضل غيره معه؛ لأن القرين السيئ يعدي كما يعدي الصحيح الأجرب، أدخل جملاً أجرب في مائة جمل سليم، هل تعديه بالعافية أم يعديها بالجرب؟ يعديها بالجرب؛ لأن المرض ينتقل، والعافية لا تنتقل، وضع تفاحة معفنة في صندوق صحيح هل التفاح الصحيح يصلح المعفنة أم المعفنة تعفن الصندوق كله؟ كذلك ضع شخصاً خبيثاً مع عشرة صالحين يفسدهم كلهم، ولهذا في الحديث في الصحيحين يقول عليه الصلاة والسلام: (مثل الجليس الصالح والجليس السوء كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك أو تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك أو تجد منه ريحاً خبيثة) فإياك -يا أخي- من مجالسة رفقاء السوء فقد قيل عن جليس السوء: عن المرء لا تسل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فترد مع الردي *** ويقول الآخر: فلا تصحب أخا الفسق وإياك وإياه فكم من فاسق أردى مطيعاً حين آخاه يقاس المرء بالمرء إذا ما المرء ماشاه وللناس على الناس مقاييس وأشباه وللقلب على القلب دليل حين يلقاه كن مع شكلك، هل رأيت حمامة تمشي مع الغربان؟! هل رأيت كلباً يمشي مع الغزلان؟! لا يمشي معها إلا لأنه يريد أن يفترسها، لا تمش إلا مع من هو مثلك على الدين والاستقامة، وإذا مشيت مع قرناء السوء أهلكوك.
9- ارتكاب المعاصي والاستهانة بصغائر الذنوب التاسع: من أسباب الانتكاس: مقارفة المعاصي والاستهانة بصغائر الذنوب: يقول الله عز وجل: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ [المطففين:14] أي: غطى القلوب: مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14] تستهين بنظرة أو بأغنية أو بكلمة أو بخاطرة أو بمعصية فتنكت في قلبك، يقول عليه الصلاة والسلام والحديث في صحيح مسلم قال: (تعرض الذنوب على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أُشربها -أي: قبلها- نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب ردها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مرباد كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض كالصفاء لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض) فأنت اجعل في قلبك حاجزاً ضد الذنوب، كلما جاء ذنب رده، لماذا؟ حتى لا ينكت في قلبك نكتة سوداء ثم تتراكم هذه النكت السوداء ثم يصير راناًَ، فيكون قلبك مرباداً ثم ينكسر القلب وينتهي، وهذه الردة -والعياذ بالله- والكفر.
(وصلي اللهم علي سيدنا محمد وعل أله وصحبه وسلم.) </B></I>