إنما الحياة سطور كتبت , لكن بماء
كتب جبران خليل جبرا فى رائعته " المواكب " : إنما الناس سطور كتبت لكن بماء , و بها تغنت " فيروز " ذات الصوت الملائكي فى " أعطنى الناى" و هى واحدة من أروع قصائد الغناء العربي . و قد قصد جبران التعبير عن هشاشة وضع الإنسان فى الكون , و منه استعير عنوان هذا المقال للتعبير عن هشاشة وضع الحياة فى الكون . فنحن نحيا تحت ظروف حدية يكفى اى انحراف بسيط فيها للقضاء على الحياة برمتها. فلو كانت قوانيني الطبيعة و الثوابت الفيزيائية مثل سرعة الضوء و قيمة شحنة الإلكترون الكهربية و ثابت الجاذبية , مختلفة عما هى عليه اليوم , فلم يكن بمقدور الذرات أن تتماسك و كانت النجوم ستتطور بسرعة كبيرة لا تتيح للحياة الةقت الكافى لنشوء و الارتقاء , بل و لم تكن العناصر الكيماوية ذاتها التى نعتمد عليها فى غذائنا و سائر انشطتنا لتولد على الاطلاق. فمع قوانين مختلفة للكون ربما لم يكن الانسان ليتواجد اصلا بل و ربما لم يكن بامكان الحياة كما نعرفها أن تتواجد ايضا. و لكننا – مع كل ذاك – لا نعرف عدد القوانين المحتملة الأخرى التى لو وجدت فى الكون فإنها كانت ستسمح بوجود حياة , و إن كانت مختلفة عن مفهوم الحياة الذى نعرفه اليوم. من هذه الظروف وجود الماء السائل , الذى يعد وجوده فى كل مكان حولنا معجزة بحد ذاته . إن كل أشكال الحياة ترتبط بوجود الماء السائل . و يقرر ربنا جل و علا هذه الحقيقة بمنتهى الحسم فى القرءان الكريم بقوله تعالى :" [color=#800000]و جعلنا من الماء كل شىء حي " . و يقرر علماء البيولوجيا أنه " حيثما وجد الماء و جدت الحياة " . و لك أن تدرك أن جزىء الماء هو واحد من أشد الجزيئات غرابة فى الكون . يتألف جزىء الماء من عائلة صغيرة ألف بينها الحب تتكون من ذرة واحدة من الأكسجين و ذرتين من الهيدروجين و تتوزع هذه الذرات فى الفراغ على شكل رباعي شبه منحرف تكون فيه الشحنات الموجبة ممثلة فى الهيدروجين منفصلة تماما عن الشحنات السالبة ممثلة فى الاكسجين و يعبر الفيزيائيون عن درجة انفصال الشحنات بمصطلح غامض قليلا هو :" عزم ثنائي القطب " –
و الفيزيائيون مولعون بمصطلحات مركبة تجعل الناس تجفل من متابعة أفكارهم , و لكن هيهات لهم فهاهنا أنا و انت من أجل تقصي حقيقة أفكارهم عن الماء- فعزم ثنائي القطب هو ببساطة عبارة عن حاصل ضرب إحدى الشحنتين فى المسافة بينهما . و نتيجة للتوزيع الفراغي العجيب لذرات الهيدروجين المحيطة بذرة الاكسجين فى جزىء الماء فإن عزم ثنائي القطب عند جزىء الماء هو أكبر بمرتين تقريبا منه عند أقرب جزىء له – تبعا لوزنه الجزيئي- و هو كبريتيد الهيدروجين – المشهور بمسؤليته عن رائحة البيض الفاسد- و نتيجة لذلك فإن المجال المغناطيسي لجزيئات الماء يكون من القوة بحيث تجذب جزيئات الماء بعضها البعض و تتحد مثنى وثلاث ورباع فيما يعرفه الكيميائيون باسم الروابط الهيدروجينية –
و الكيميائيون هم أقوام غريبي الأطوار يصفون كل شىء فى الكون بهمهمات غامضه عن القوى الكهربية و المغناطيسية و النووية و كأنما تحول الكون كله الى عالم من الأسلاك الكهربية و المفاعلات النووية - . هذه الروابط الهيدروجينية هى روابط ضعيفة جدا و لكنها تتكون بأعداد كبيرة بين جزيئات الماء و بعضها البعض مما يكون له تأثيرا واضحا على سلوك الماء : إذ يحتاج فصم عرى هذه الروابط الى طاقة كبيرة جدا و هو ما يؤدي الى ارتفاع درجات انصهار و غليان الماء و بالتالي يسمح للماء بالبقاء سائلا فى مدى كبير نسبيا من درجات الحرارة ( من صفر الى 100 درجة مئوية ) و ذلك على الرغم من أنه فى ظل صفات الماء الكيميائية المتعلقة بوزنه الجزيئي فقد كان من النفروض أن يغلي الماء عند 70 درجة تحت الصفر المئوى و أن يتجمد عند 90 درجة تحت الصفر المئوى و لكان على الجليد المتكون أن يغرق فور تكونه و لا يطفو على السطح كما هو الحال الآن فبفضل قدرة ذذرات الهيروجين منزوعة الشحنة على تكوين الروابط الهيدروجينية فإن جزيئات الماء تتمدد عند تجمدها على عكس باقى السوائل , و بالتالي يطفو الثلج الصلب على سطح الماء السائل . و لو لم تتكون الروابط الهيدروجينية لما وجدنا نحن لنناقش هذه القضايا أصلا. اذن فنحن مدينون بإمكانية وجودنا للشكل غير المنتظم لجزىء الماء الذى ادى لتكون الروابط الهيدروجينية.
يغطي الماء نحو ثلاثة أرباع سكح الأرض بل و حتى اجسامنا تحتوى على نحو 71% من وزنها ماء و تحدث جميع التفاعلات الكيماوية بداخلنا فى وسط مائي . و قد اكتشفت " ليزلي كون " أن جزيئات الماء التى تمثل نحو 77% من جزيئات البروتين تستكن فى الشقوق و الاخاديد العميقة ببنية البروتين – إذ أن الجزسئات البروتينية تطوى على نفسها عدة مرات بحيث يتعذر على أى شىء حمل أى مكونات أو مغذيات من خلال هذه الطيات إلا من خلال الماء . فقد و جدت " كون " و زملاؤها بجامعة ميتشجان الامريكية أن ماء الاخاديد البروتينية مصون عبر الانواع, فبدون هذا الماء تقوم طيات البروتين بكبس اخاديدها حتى التلاشي . أى أن وجود الماء يفتح الطريق أمام الجزيئات الهدف لتصل الى الاحماض الامينية بأعماق الاخاديد البروتينية و التى لم تكن لتصل اليها لولا وجود الماء.
إن غياب الماء يحمل طعم الموت السريع , على الاقل بالنسبة للبشر, فانخفاض مقداره 2 % فقط من سوائل جسمنا يوحي الينا على الفور بالعطش , وفقدان مقداره 5% يسبب الهلوسة , و فقدان مقداره 12% يقتلنا عطشا.
و فى الماء تجري كل كيمياء الجسم الحى فلا جذور النباتات و لا اجسامنا تستطيع امتصاص المواد الغذائية الا و هى ذائبة فى الماء. و من خلال الماء وحده الذى يمر عبر جدران الغدة الدرقية و الكلى و الرئة نستطيع ان نتخلص من السموم المتجمعة بأجسامنا أولا بأول.
و لكن على الرغم من أن الماء يدعم الحياة و يرعاها فى حالته السائلة , فإنه فى حالته البللورية الصلبة – الجليد و الثلج – يدمرها. فالكائنات الحية يمكنها أن تستقر فى ينابيع المياه الحارة, و أن تتمرغ فى الماء شديد الملوحة , بل و أن تبتلع الأحماض , و لكنها تنفر من الجليد : ذلك لأن الترتيب الصارم لجزيئات الماء فى بللورات الجليد يطرد الشوائب و يمزق النسيج الحيوي شر ممزق.
و لذلك فوجودنا مرتبط بمعجزة وجود الماء سائلا فى كل مكان حولنا على هذا الكوكب بما له من صفات غريبة و عجيبة بغرابة الكيميائيين و الفيزيائيين الذين اكتشفوا هذه الصفات . و هم على غرابتهم يستحقون منا كل إجلال و احترام لاتاحتهم الفرصة لنا على الدهشة و ادراك أعجوبة وجودنا فى هذا الكون . فالدهشة هى احدى السمات المميزة للبشر عن سائر الحيوانات إذ أنها تعنى قدرتنا على التفكير و على ادراك اوجه مختلفة للحقيقة لا تدرك بغير العقل البشري . غير أن لهذا حديث آخر بإذن الله تعالى